على امتداد أربعٍ وثمانين ليلة من ليلة وألف ليلة، في ظلال الحكي الشهرزادي (الأنثوي) في أبهة الحضور الذكوري لشهريارالثقافة/السلطة/الذكر (وكما سيتضح تباعاً الذكر/اللغة)، في حضور السطوة "المسرورة" للسيف المذكر أيضاً، وعلى ركام إناثٍ/حكيٍ سابقٍ على شهرزاد، ظلت تلك القّاصّة، تسرد على مسامع الأمير قصة الجارية "تودد" ، متخذة من إنتصاراتها السردية، حماية لها من بطش السيف الأميري الـ"مسرور"، مراكمة الليالي سردية فوق سردية ، مؤسسة لتأنيث السرد الحكائي ألفاً من اليالي وليلة، لا قبلاً ولا بعداً، في ظرف ثقافي دائم الإنتصار للذكورة.
أما "تودد"، التي دفعت الموت عن شهرزاد كل تلك الليالي الـ84 من الألف وواحدة، فقد كانت جارية لشاب يدعى "أبو الحسن"، ولذلك الأخير قصة تترواح فصولها بين العبث و الفشل ، وحيد والديه، ذا جاه عريض وثراء عظيم، ولم يكن لوالده من الذرية إلاه، ولكن على خطوط يد هذا الشاب ، أُهدر الجاه وتبدد الثراء، وصولاً به إلى حافة الفقر و الإفلاس و الإملاق ، ولم يتبق له إلا "تودد" الجارية.
:وعلى مشارف يوم جديد، في بيت خال من الزاد و الماء، قالت له
"ياسيدي احملني إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، وأطلب ثمني منه عشرة آلاف من الدنانير، فإن استغلاني فقل له يا أمير المؤمنين وصيفتي أكثر من ذلك فاختبرها يعظم قدرها في عينك لأن هذه الجارية ليس لها نظير ولا تصلح إلا لمثلك."، ثم قالت له إياك أن تبيعني بدون ما قلت لك من الثمن فإنه قليل في مثلي، وكان سيد الجارية لا يعلم قدرها ولا يعرف – ولذلك دلالته فالأشياء لا تقاس إلا ببعدها المادي كـ"كونها ملك يمين"- أنها ليس لها نظير في زمانها.
طرقات على باب الخليفة العالي ، يفتح الحراس للقادم وما ملك، وفي حضرة الخليفة، يتعجب الرشيد من ارتفاع الثمن، ولكن أبا الحسن يطلب من الخليفة الرشيد (امتحان) ما ملك ليعرف قيمتها فيملك، وهنا تعرض على الرشيد "تودد" عرضاً فيه من التحدي مايكفي لإثارة الخليفة، وهز بابه العالي، مايكفي لجلب علماء الخلافة من البصرة، وعلى رأسهم إبراهيم بن سيار النظام، ومعه الفقهاء و الفلاسفة و الراسخون في العلم في زمنهم، وتدخل معهم تودد في مناظرة، لتخرجهم مهزومين واحداً واحداً من المجلس، عراة من ثيابهم ومن وجيه معنوياتهم ومنزلتهم.
إذ تتقابل الأنوثة عَرَضاً ضعيفاً في مقابل القوي الذكر الدائم، فالأنثى هاهنا جارية –لاسيدة- لا حرية لها، فتاةٌ/شيءٌ/ملكٌ وحيدة لا أهل لها، بلا سند أسري أو اجتماعي أو مادي، صغيرة السن، غضة الجسد فاتنته، وصاحبها لا مال له ولا أمل، ومنزوع الجاه و الثراء و المنزلة، وكل ذلك –ويزيد- عوامل ضعف.
وفي مقابل ذلك يأتي الذكر/ الخليفة ، متسلحا بذكورته المُلك والسطوة، وذكوره الرواسخ في العلم و الفلسفة و الدين و الجاه و السلطة والبطش، لتجتمع الدولة بسلطانها السياسي و المالي و الحضاري والديني و الثقافي، لتواجه "تودد"، سلطان راسخ ، فحولة مكتملة ومثقفة وممنطقة ومشرعّنة في مواجهة جسد غض وسن صغيروأنوثة مملوكة.
وتتهاوى الأحداث على مسمع شهريار ، وهاهي "تودد" تبارز الرجال واحداً تلو الآخر، لاتناظر أحدهم إلا بعد هزيمة الأول علانية، أمام الخليفة ورهطه من راسخي المكانة و علماء الزمان الدوّار. يبدأ سائلاً، فتجيب "تودد" بإفحام، فتهدد مواطن التمكين فيه، شخصاً ومنطقاً فيلجأ للحيلة للإيقاع بها، بكمنطق الذكر الغرور، تهزمه رجاحة الأنثى ودهاؤها الأنيق، فيلعن الرواسخ راسخاً راسخاً هزيمتهم، مستسلمين لخروج العلم عن ذكورته إلى أنثوتها، وفصيح لسانها.
ويأتي دور "تودد" حينها لتسأل الراسخ بعدها أسئلة في ظل علمه، تنتهي على الدوام بعجز إجاباته، و انفضاحه أمام سلطانه "الرشيد"، فتعاقبه الأنوثة الحكم ، بأن تُنزع عنه ثيابه، ويهرب عارياً خذلاً. ولعل إصرار السرد على الإشارة إلى اصرار كل راسخ من الرواسخ على التعامي عما صار بسابقه له من الدلالة الكثير، فهاهم يتهاوون في منطق التأنيث، واحداً تلو الآخر ، المقريء ثم الطبيب وقبلهما الفقيه – بأمر من السلطان بعد ممانعة- ، و المنجم في الخاتمة إذ يقول للجمع: "اشهدوا على أنها أعلم مني" وانصرف مغلوباً، هو دلالة على ذاتية الفحولة في منطق كلٍ ممن سبق وتلى.
ولورق التوت على عوراتهم منطق الفكاهة بعد الهزيمة، فهاهو الـ"حكيم" يسأل "تودد": (أخبريني عن الجماع؟
فلما سمعت ذلك أطرقت رأسها واستحيت إجلالا لأمير المؤمنين، ثم قالت: "و الله يا أمير المؤمنين ماعجزت بل خجلت وإن جوابه على طرف لساني". فلم يكن إلا التندر و السخرية حلاً لتلك المحاولة "الحكيمة"(!!!)، بعد الإطراق الصامت على استحياء منتصر، ثم أتت الخاتمة عندما أقّر (النظام) قوة تلك الثقافة الأنثوية جسداً ومعنىً في "تودد"، حينما سألها عما هو أحّد من السيف؟ فقالت: اللسان.
* * *
للرمز في قصة "تودد" كل البطولة ، فبعيداً عن مسرحة السرد وساخره في بعض المواقف، إلا أن البطولة في تلك القصة هي للرمز، بداية من الإسم، فـ"تودد" اسم يعود إلى نسب دلالي ثري، فالود هو أحد أبواب الحب ومداخله، وهو باب من خمسة وخمسين باباً للعشق ذكرها ابن القيم الجوزية، فالود "خالص الحب وألطفه و أرّقه وهو من الحب بمنزلة الرأفة من الرحمة"، ويقول ابن القيم، هو "أصفى الحب و ألطفه".
ويتضمن الود معنى "الجلب"، فتودده تعني اجتلب وده، ومن هنا كان لإسم الجارية "تودد" مسافة ثورية، رافضة لمنطق العام و السائد لغةً، بالذات حينما تتواطأ الثقافة مع اللغة لقهر "تودد" الأنثى، فهي جميلة، وصغيرة السن بلا حسب ولانسب، و الظرف قاهر. ذلك يعني تحرر الجسد الأنثوي من سلطة اللغة وصفاً وتحوله من قيمة جسدية إلى ثقافية وفكرية رغماً عن الثقافة نفسها، فالأنوثة تعري الرجولة وتهزمها، وهي غاية المفارقة وأقصى مداها، وفيها قلب للسائد الإجتماعي والثقافي، إذ تدفع المرأة هاهنا بنفسها إلى صدارة المقام الإجتماعي فتقف أمام الخليفة وفي مجلسه، ويتم إحضار اباطرة العصر من راسخيه في العلم وغيره، وهو مايمثل ذروة الهرم الإجتماعي، لتنتصر.
للرمز أيضاً دور، عندما نجد أن حكاية "تودد" لم تحقق ثقافة "نسائية" ذاتية، كما يرنو الكثير مما يسمى "الحركات النسوية"، التي تنادي بالمساواة من باب الخروج عن النسق الثقافي، وهو ما يعتبر في ذاته اعترافاً "جنوسياً" بالتفوق أو "الغيرية" الذكرية، إن الثقافة المجازية في القصة هي:
- ثقافة جسد مقابل عقل.
- سادة في مقابل جارية. ثقافة كتاب ثابت في مقابل إبداع متمرد.
وهي ثقافة الرجل بلغة الرجل وعقل الرجل، ولكنها في ذاكرة الأنثى وعلى لسان الجارية، مما يمثل إستلاباً أنثوياً لكل ماهو رجولي/ذكوري/فحولي، فالأنثى تخطف سلاح الرجل وأدواته السلطوية و المعنوية و الدينية و الثقافية وتصوبها نحوه لتهدم صنم الفحولة والذكورة من عليائه.
لجمالية جسد "تودد" دورها، فالإمتلاك المادي الأول لأبجديات وصفية جنوسية كالجسد الغض الفاتن المصحوب بصغر السن، لم يتوقف على حدود ماديته، إذ كان من الممكن لذلك الجسد أن يكون مصدر ضعف لصاحبته بوصفه اغراءاً جنسياً مشاعاً، بحكم أن صاحبته "جارية"، إلا أن تحول الجسد من قيمة مادية إلى قيمة ثقافية زاده قوة فاقت ثوابت و"رواسخ" عصره البالغة الفحولة و الذكورة، إذ وصلت قوته أن أنقذت "شهرزاد" بعد توسل لم يكتب له النجاح، بذكورها البنين الثلاثة، من مصير "شهريار"ـي محسوم و "مسرور" لمدة أربع وثمانون ليلة، فتحولت سردية "تودد" إلى إنتصار أنثوي ممتد.
لملك اليمين هاهنا دلالة، أيمكننا أن نتخيل إستواء المعنى والدلالة لو كانت "تودد" سيدة، حرة؟؟
أيمكن أن تُعرض "تودد" في سوق النخاسة هذا على تفرده-من دون تدخل الرجل الذكر في المواجهة أو التقييم إن كانت سيدة حرة؟
إن شخصية الجارية جاءت بصفتها قناع بلاغي أو تورية، الهدف منه تحرير كامل الجسد الأنثوي ثقافياً، من بطش اللغة والمجتمع والثقافة، وكل أولئك هو نتاج لعلاقات القوى والسلطة، ذلك التحرير لا يأخذ بعده التام إلا بالوعي بالمسافة بين النص والحكي.
ولعل الثقافة في مجتمعاتنا القديمة والحديثة-هي فعل ذكوري محض، ولعل الأعراف الإجتماعية في بلادنا تكشفها إحصائيات "الأمية بين الإناث" و"التعليم الأساسي للإناث" و"التعليم العالي للفتيات" و"حملة الشهادات العليا بين النساء" و"النساء في العمل العام" و"عدد الرجال الذين يعتبرون الدراسة والأكاديميا والعمل العام أهم من البيت ومسؤولياته في شريكة العمر" وغيرها من الإحصائيات. وهو ما لايختلف كثيراً عن العصر القديم مما أشار إليه–مثلاً- السيوطي في كتابه "نزهة الجلساء و أشعار النساء" من أن الثقافة النسوية تعتبر معادلاً مضاداً للحرية والسيادة (!!!) ، والمرأة الحرة لاتمارس الثقافة، سوى إستثناءات يسيرة لاتشكل نسبة ذات اعتبار وكثيراً ما يحدث التكتم على اسم المرأة الحرة إذا ماصارت على قدر من الثقافة مثل حال "علية بنت المهدي" صاحبة المجلس الثقافي الذي لا تجرؤ على تقديمه باسمها الحقيقي، التي ادعت الثقافة باسم منتحل، لأنها وإن إدعت القدرة على مواجهة الثقافة الذكورية للمجتمع- فهي لاتملك من شجاعة الرمز إلا القليل، ذلك القليل الذي لا يحررها تماماً كما هو الحال مع "تودد"-من التصميم الإجتماعي والثقافي للأنوثة، كمتاع ذكوري.
فالثقافة إذا صدرت من أنثى، فهي ليست تحررية كما تقر الدساتير والعقائد الثقافية، فـ"علية" أخت هارون الرشيد التي قالت الشعر وأعلنت الحب و جاهرت بالغناء، سببت لأخيها حرجاً ثقافياً كبيراً، من دون مواجهة مع سلطته المعنوية ولا السياسية ولا الثقافية ولا الإجتماعية كما هو الحال مع "تودد" ومعركتها الدلالية والرمزية مع فحول الرسوخ في ذاك العصر، إذ وجد الرشيد وهو المعروف بحبه للشعر والطرب نفسه لا يقبل تداخل جنوسة الأنساق الثقافية بهذا الشكل المهدد للذكورة والفحولة الثقافية السائدة، بأفعال أخته التي هي في نهاية الأمر أفعال جوارٍ كما وصفها الأصفهاني في كتاب الأغاني-، وقد كانت "علية" سيدة من بلاط راق ومتطور ثقافياً ويحيط بها الفن والجاه والثقافة من كل مكان، فأمها مغنية وجارية في أصلها، ولها أداء شعري ولحني راق الخليفة المعتصم يوماً، ولما سأل عن قائله غضب غضباً شديداً حينما قالوا له أنه لعمته "علية"، وتلك غضبة ذكورية على الحمى الثقافي، مدفوع ومشروط بجنوسية ثقافية، و إلا فما الذي يجيز للجواري ماهو حرام على السيدات؟
لذا، كان أكثر ما يوضح ذلك هو الجذر الدلالي لكلمة "تودد"، الذي يحيلنا إلى ماورد في معنى (المودة) حيث جاءت الإشارة إلى أن معناها (الكتاب) –القاموس المحيط : مادة "ود"-، وبه فسر بعض المفسرين قوله تعالى (تلقون إليهم بالمودة) أي بالكتب. وذلك مايقيم علاقة جذرية بين اسم الجارية ومفهوم الكتاب، وكأن "تودد" قد برزت أمامنا بوصفها كتاباً أو موسوعة معارف من المحفوظات العصرية.
وهنا نعيد التذكرة للجميع، بأول آية في الذكر الحيكم، إذ أنها مع "تودد" تعري زبانية الدين، ووثنيوا السلطة وعسكريوها، في هذا العصر فتقول لنا على أعتاب جسد "تودد" الثقافي الثوري: إقرأ؟
فيردون: "نحن نيام"، وكلنا و إناثاً- "تودد" بلا دلالة تحررنا، مالم نتحرر قبلاً بدلالتهنَّ.
للثقافة ملحمة ذكورية أخرى في الشأن الأنثوي، فهاهو غلغامش تصدره الثقافة محارباً عن الإنسانية والطموح الإنساني الأزلي للخلود والتوق للآلهة، دون أن تذكر شيئاً أو حتى إسماً عن الأنوثة المنتهكة في الطريق إلى السماء.
إذ كانت الأنوثة أداة للسلطة، لها "وظيفة" تتحدد بالمنطق البيولوجي، حيث يرد في بداية النص الملحمي المسماري:
وأنبيء غلغامش عن بأس هذا الرجل
وليعطيك بغياً مومساً تصحبها معك أيها الصياد
دعها تسيطر عليه وتروضه
وحينما يأتي ليستقي مع الحيوان مورد الماء
دعها تخلع ثيابها وتكشف عن عورتها ومفاتن جسدها
فحالما يراها فإنه سيقترب منها وينجذب إليها
وعندئذ ستنكره حيواناته التي ربيت معه في التربة
تتعامل الثقافة المسرودة هاهنا مع الأنوثة بالمنطق الوظيفي الأداتي، مغطية على طول السردية على الكينونة الأنثوية، محولة إياها إلى ملموس ذاتي، ولا يعرف لها إسم –باعتبار أن الإسم أولى أدوات تعريف الشخصية المؤثرة في بناء الحبكة للسرد، إذ تقدمها الثقافة سرداً بالتعريف الوظيفي لها، إذ أنها على طول السردية "بغي" و "مومس"، لتقيد الجمالية الأنثوية بحدود الهدف السلطوي، لتأكيد أن الجمال عورة وفتنته بداية السلاح والشَرّكْ، إذ يرد في موضع آخر:
هذا هو أيتها البغي فإكشفي عن نهديك
إكشفي عن عورتك لينال من مفاتن جسدك
لاتحجمي بل راوديه و ابعثي فيه الهيام
فإن متى رآك انجذب إليك
إنضي عنك ثيابك ليقع عليك
علمي الوحش الغر فن (وظيفة) المرأة
أي أن الثقافة السردية هاهنا تحدد الأنوثة "وظيفياً"، وهو مايعيد التأكيد على أن التأسيس الثقافي للأنوثة لا يخرج عن:
1. الغواية الجمالية مادياً، وليس قيمياً، وهو ما تحدده الكثير من المواريث الدينية والاجتماعية وماتعارف عليه العرف والجمع، بالتواطؤ مع اللغة.
2. التناسل، إذ يرد تعريف "الأنوثة" في كتاب النحو الواضح بالقول: "المؤنث" الحقيقي هو الذي يلد ويتناسل، ولو كان تناسله عن طريق البيض والتفريخ.
أي أن التأنيث محصور في وظيفتين، لهما نطاقهما الزمني، المحصور في فترة من بضع وعشرة من السنين مابين سن البلوغ : إتضاح الشكل غواية بيولوجية إلى ماقبل الكهولة: إنطفاء القدرة التناسلية بيولوجياً، أما ماقبل ذلك ومابعده، فليس من "حقيقة" الأنوثة في شيء، ولذلك دلالته حتى في الثقافة الدينية إذ تحتجب المرأة على مشارف البلوغ أو ماقبل، ولاتلزم به فيما بعد، في تخصيص لجغرافية الجسد البيولوجية، تحقيقاً لفكرة الحور العين، ملك اليمين الذكوري في الجنان، ليتماهى الجسد و البيولوجيا دينيياً وثقافياً.
وبالعودة للملحمة المسمارية:
لبث أنكيدو يتصل بالبغي ستة أيام وسبع ليالٍ
وبعد أن شبع من مفاتنها
وجه وجهه إلى ألفة من حيوان الصحراء
فما أن رأت الظباء "أنكيدو" حتى ولت عنه هاربة
وهربت من قربه وحوش الصحراء
ذعر "أنكيدو" ووهنت قواه
خذلته ركبتاه لما أراد اللحاق بحيواناته
أضحى "أنكيدو" خائر القوى لا يطيق العدو كما كان يفعل من قبل
ولكنه صار فطناً واسع الحس و الفهم
رجع وقعد عند قدمي البغي
وصار يطيل النظر إلى وجهها
ولما كلمته أصاخ بأذنيه إليها
كلمت البغي "أنكيدو" وقالت له:
"صرت تحوز الحكمة يا "أنكيدو" وأصبحت مثل إله
فعلام تجول في الصحراء مع الحيوان؟
تعال آخذك إلى "أوروك" ذات الأسوار
إلى البيت المقدس، مسكن "آنو" و"عشتار"
حيث يعيش "غلغامش" الكامل الحول والقوة
المتسلط على الناس كالثور الوحشي".
ينبني التعامل الثقافي مع الأنثى في النص المسماري على توظيف الدلالة الجسدية للمرأة، أو حيزها الوحيد المعترف به في الفضاء الثقافي، توظيفاً في الحبكة سلطوياً، إذ يراد بها نزع القوة عن "أنكيدو"، في منطق معادل ومقابل لذلك الذي حدث مع "تودد" ولكن الدلالة واحدة.
إن تحديد الحيز الوجودي للمرأة في الملحمة إلى الآن هو مجرد أداة وظيفية للثقافة الذكورية، ولكن تلك الثقافة هزمتها الأنوثة جزئياً، وهي تحرر "أنكيدو" من همجيته وبدائيته، رافعة إياه لمنزلة أعلى من تلك التي كان بها ، وهو مايمثل أحد أهم مفاصل ومواقع النصر الأنثوي في الحكي على الثقافة الذكورية، بتحرير "أنكيدو" والتاسيس لحالة من الندية والمساواة بين سليل الآلهة، وسليل الطبيعة (المؤنثة، فأنكيدو من أم لم يرد ذكرها، وثقفته أنثى).
تلك الأنوثة التي إنتصرت إنتصاراً تالياً على السابق، حيث علمت "البغي/المومس" "أنكيدو" أحد أهم تمثيلات الثقافة، وطقوسها: الأكل، إذ تقول الملحمة:
ربي على رضاع لبن الحيوانات البرية
ولما وضعوا أمامه طعاماً تحير واضطرب،
وصار يطيل النظر إليه
أجل لا يعرف "أنكيدو" كيف يؤكل الخبز
لأنه شب على رضاع لبن حيوان البر
ولم يعرف كيف يؤكل الخبز
ولاكيف يشرب الشراب القوي
ففتحت "البغي" فاها وخاطبت "أنكيدو":
"كل الطعام ياأنكيدو، فإنها سنة الحياة
وإشرب من الشراب القوي، فهذه عادة البلاد"
فأكل "أنكيدو" من الطعام حتى شبع
وشرب من الشراب القوي سبعة أقداح
فانطلقت روحه و انشرح صدره وطرب لبه ونور وجهه
نظف جسده المشعر ومسحه بالزيت
وأضحى إنساناً، لبس اللباس وصار كالعريس"
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالنصر الأنثوي لأنكيدو وبه، مكَّنه بما حبّاه من الحكمة، والحس والنباهة والثقافة، أن يمنع طقس "الزواج المقدس"، والذي تقوم فيه "كاهنة" بدور الآلهة لتحقيق الاتصال الجنسي مع الملك (ومايحققه ذلك أيضاً من دلالة النفي والإخفاء للأنثى الآلهة، حيث لا يمكن حتى للآلهة من تخطي حدود وقيود المنع والتخصيص الجسدي الأنثوي ثقافياً للذكر/الإله/الملك أو سليله، بل تحتاج لوسيط يمثل نفس القيمة الجسدية الأنثوية، وإن كان ذا مرتبة أقل قداسة، فالقدسية لا تحرر من الذكورة في حالة الآلهة المؤنثة أيضاً).
وهاهو "أنكيدو" الذي حررته الأنوثة، يتصدى لغلغامش ويمنعه من دخول المعبد (الحيز الذكوري الجنسي المقدس، الذي لا تحضر فيه الأنثى كاملة إلا محض متاع وخفاء وتخصيص)، فتنشب معركة بين البطلين، ودلالتهما (مصارعة)، تنتهي بهزيمة "أنكيدو"، بعد طول مقاومة واستماتة. وكما أي سلطة، تتجمل "الثقافة" بالمهزوم، وهاهو "غلغامش" الرمز و السلطة والثقافة الذكورية والمؤله (في ثلثيه)، المنتصر الذي لم تحرك فيه الأنوثة إلا حس التجبر و التسلط والقهر (تقول الملحة وتركز على أن غلغامش كان يواقع الفتيات ليلة زفافهن قبل أزواجهن ولم يترك فتاة لأمها، ولا صبية لبعلها)، ينعم على "أنكيدو" الذكر -أيضاً- الذي حررته الأنوثة فتمرد على الثقافة و السلطة، بنعمتيَن، ليسا إلا منةً من الثقافة / الذكر:
1. تسمية شهر آب/أغسطس في التقويم البابلي بشهر "غلغامش": الذكر المنتصر.
2. ربط صداقة "أنكيدو/المهزوم" لـ"غلغامش/المنتصر" باعتراف الأول بغلبة خصمه له، الذي يتحلى بالملوكية المقدسة، في طقس أقرب ما يكون للأيروسية والذكر المسيطر.
***
في حراكنا الثوري العربي (والنضالي أيضاً)، نجد كثيراً من ظلال "تودد" و "علية بنت المهدي" و "البغي/ المومس" ورمزيتهم التي لا تستعص إلا على مذكر سلطوي/ثقافي/اجتماعي/ديني فهماً. فمن الحراك الثوري المصري مثلاً، ها هي "قتاة التحرير" التي عراها جنود المجلس العسكري المصري، تترادف في رمزيتها مع "تودد"، بجسدها الواقع تحت سطوة قوتين قمعيتين ظاهرتين:
العسكر: فيما يمثل البنية السياسية (علاقات القوى)
الدين (تأويلاً): فيما يمثل جزءاً حيوياً من البنية الثقافية (علاقات المعرفة)
أما القوى الغير ظاهرة و التي ساهمت في قمع الفتاة، فيمكن القول أنها قوى "مركبة" من التفاصيل المجتمعية، والأعراف، والتقاليد وغيرها، ولكن الجدير بالذكر أن كل تلك الأنساق لاتنفصل عن (علاقات القوى: السياسية و التي يملكها العسكر الآن ومن تواطأ معه) و (البنية الثقافية وما يمثله التأويل الديني وتفسيراته والمعرفة من عنصر أساسي في تكوين تلك البنية).
الجسد المؤنث في الكثير من التأويلات الدينية–وليس النصوص- هو إمتداد للتعريف اللغوي للمؤنث، إذ يعتبر رمزية الجسد لا تخرج عن كونها رمزية غواية جنسية، ومثير يفقد من يقع تحت سطوة الغواية إنسانيته وقيمته ويحوله لحيوان يقاد بالغريزة لا عقل له، أي أن الجسد المؤنث هاهنا يصيب من يراه بدونية تعتريه، وتفصل بينه وبين "ألفته"–من البشر أو الأتباع أو أصحاب نفس الدين والتأويل، وهي نفس الوظيفة التي أريدت "للبغي/المومس" في تعاملها مع "أنكيدو" باديء الأمر، ولهذا وجب على الدوام إما "حجبه" و إما "تنقيبه"، أي أن الشحنة التي أعطيت للجسد الأنثوي هاهنا هي شحنة تنفي عن الجسد وجوده القيمي الإنساني، وتحصره في الوجود البيولوجي وتبعاته.
فإن كانت "الأجساد كيانات مختلفة طبيعياً (...) فهي كذلك ظاهرة طيعة إلى حد كبير، ويمكن شحنها بمختلف أشكال الوة المتغيرة" –بحسب فوكو، فعلينا أن نتذكر أن الجسد و حركته هما رسم على إحداثيي الزمان و المكان، ولعل غياب التعبير الجسدي ، هو في الأصل رديف–تعبيري في ذاته- لمشكلة غياب الحرية والديموقراطية، إذ أن حرية الجسد تتحقق في الوجود والإزدهار تعبيرياً، أي أن للجسد فنون أوسع من تعاريفنا الظرفية و الشرطية لكلمة فن، وأقرب للتعبير "الرمزي"–كما الحال في بطلاتنا الواردة أعلاه، أي أن الجسد وجد لتحقيق قيمة : الرمز، وهي في أصلها بحسب غلبير دوران: " تأكيد الاتجاه للحرية الشخصية"، وهو الدور الذي لا يتحقق إلا في بوتقة الحرية –التي يسميها "دوران": "محرك الرمزية" أو "جناحي الملاك"- تلك البوتقة التي أعطت لفتاة التحرير قدرتها التحررية و الثورية الهامة:
فتلك الفتاة أريد قمعها "جسدياً ورمزياً"، لأن وجودها معترضة على سياسات الطبقة الحاكمة في ذلك الظرف (المجلس العسكري)، استلزم نفياً وطرداً لها ولبقية المتظاهرين المعتصمين معها، ولعلها الصورة الأكبر و الأكثر رمزية من حيث التعبير الجسدي، عن رفض تلك السياسيات بالـ"اعتصام الجسدي" في مكان وزمان معيّنيَن. بكلمات أخرى، فإن مواجهة تلك الفتاة لذلك القمع الجسدي الواقع عليها هو قمة التعبير والفعل الثوري الرافض والحسام في رفضه لمسألة "قمع المختلف/الرافض لسياسات المجلس العسكري".
وهوذلك الحسم
[المقالة الأولى في سلسلة تنشر تباعاً]